تخطى إلى المحتوى

العمارة في زمن كورونا

الرياض مركز الملك عبدالله المالي
لفتت انتباهي رواية “غبريال غارسيا ماركيز” الحب في زمن الكوليرا، التي تتحدث عن حكاية وجدانية في زمن تفشى فيه مرض الكوليرا. هذه الرواية تقول: إن الحب والحياة أقوى من المرض فالإنسان يسعى لأسباب وجوده أكثر من أي شيء آخر. ربما نحن، في لحظات تفاقم وباء “الكورونا” الجديد وإعلان منظمة الصحة العالمية أنه “جائحة” والهلع غير مسبوق الذي يعيشه العالم، فهناك دول بأكملها أصيبت بالشلل التام، توقفت فيها سبل الحياة. المدن الكبرى تقف عاجزة أمام هذا الفيروس الذي لا يرى بالعين المجردة. التكبر والغرور العمراني لم يعد يرى أمام كائن يتحدى الوجود الإنساني ويقول للبشر جميعاً حتى تلك الدول التي تسمى نفسي بالعظمى، يقول لهم “أتحداكم”. تأملت هذا الشلل الحضاري الغريب الذي يعيشه الإنسان وكأنه توقف عن عمارة الأرض فجأة رغم إرادته. لم يعد يفكر في البناء ولا في الفن ولا الصناعة، نسي السياحة والترفيه والسفر وتذكر فقط أنه يجب أن يكون “موجوداً” وأن هناك كائناً غريباً يهدد هذا الوجود
يوم الأحد الفائت وهو اليوم الأخير قبل تعليق حضور الطلاب للجامعات كنت أتحدث مع طلاب الدكتوراه عن مفهوم “الإحياء” في القرآن وكيف أن هناك تراتبية في طرح هذا المفهوم تركز على الوجود الإنساني أولاً ثم بعد ذلك العمارة والعمران وبناء الحضارات. يقول الله تعالى: “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً” (المائدة: 32). الأصل في عمارة الأرض هو إحياء النفس البشرية وحفظها، لذلك عندما يتحدث القرآن عن الإحياء من الناحية العمرانية يبدأ بمسألة توفير الماء والغذاء الذي يمثل الحاجة الأساسية التي لا يمكن أن يعيش الإنسان دونها. يقول الله تعالى: “وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين” (الحجر: 22) ويقول الله تعالى “هو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء” (الأنعام: 99). إذا مسببات الوجود الإنساني هي سنة من سنن الله في الكون وأن هذه الأسباب تشكل منهج متوازن يجب أن لا يخل أحد به.
ينتقل القرآن بعد ذلك إلى أحياء الأرض، التي تمثل مكان الحياة ويفترض أن تكون “مسرح العمران”، فيقول سبحانه وتعالى: “والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها” (النحل: 65). وأخيراً يصل إلى العمران فيقول تعالى: “والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تنشرون” (الزخرف: 11) ومن مظاهر العمران ينشأ الاقتصاد وتبنى الحضارات، يقول تعالى: “هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر وفيه تسيمون” (النحل: 10)
هذه التراتبية الدقيقة لمفهوم الوجود الإنساني التي تستحق أن نضع لها سلماً مشابهاً لسلم “ماسلو” لتطور الحاجات الإنسانية يبدأ من “الحاجة الأساسية” وهي البقاء والوجود وما يعني ذلك من توفر الماء والغذاء كمسببات للوجود، ثم “الحاجة الداعمة لوجود الحاجة الأساسية” وهي إحياء الأرض التي توفر الماء والغذاء. ثم “حاجة العمران” من خلال إحياء الأرض وتحويلها إلى مكان للاجتماع الإنساني الذي يوفر الحاجات الأساسية وأخيراً “الحاجة الاقتصادية” التي تعني التطور وبناء الحضارة. لقد لاحظت من هذا النقاش مع الطلاب، وكان كورونا حاضراً في النقاش، أن الإنسان وقت الأزمات يتنازل عن كل شيء إلا الحاجة الأساسية التي تضمن وجوده، فالعمارة والعمران وما يصاحبها من اقتصاد وبناء للحضارة هي في آخر سلم الأولويات الإنسانية وقت الخطر وإن كانا يقفزان إلى المقدمة وقت الأمان
ما خطر ببالي هو أن “العمارة في زمن كورونا” هي فرصة لاختبار ذكاء الإنسان وإعادته إلى سلم الأولويات القرآنية التي تكشف عن هشاشة الوجود الإنساني، وأن لكل شيء سبباً وأن الماء على بساطته، كونه حولنا وبين أيدينا هو “سبب الوجود” “وجعلنا من الماء كل شيء حي” وأنه لو زال فقد الإنسان سبب وجوده. التحدي الذي يوجهه “كورونا” للحضارة الإنسانية جدير بأن لا يمر من دون أن نتعلم منه. كل هذه الاحتياطات التي تتخذها البشرية اليوم لأنه حدث خلل طفيف في ميزان التوازن بين مسببات الحياة ومسببات الفناء فارتبكت الحضارة الإنسانية برمتها فما بالكم لو استمر هذا الخلل وطال جوانب أخرى
0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x

أشترك معنا بالنشرة البريدية !!

نقوم بجمع أحدث الأخبار والمقالات المنشورة كل أسبوع ،  ونرسلها لك نهاية الأسبوع بعد صلاة الجمعة لتطلع على كل ماهو جديد